فصل: وجوه الإعجاز:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.وجوه الإعجاز:

38 - نقصد بوجوه الإعجاز الأمور التي اشتمل عليها القرآن، وهي تدل على أنه من عند الله، وما كان في استطاعة أحد أن يأتي بمثله، وما كان في استطاعة الجن والإنس أن يأتوا بمثله، ولنَتَّجِه إلى أقوال العلماء في هذه الوجوه؛ ثم نتجه بعد ذلك إلى بيان ما نقصد إلى بيانه من بحثنا هذا الذي نضرع إلى الله أن يمن علينا بالتوفيق فيه كما منَّ علينا من قبل، فنحن نعيش فيما نكتب، ونبحث تحت فيض الله تعالى وتوفيقه، ولولا توفيقه سبحانه وتعالى - ما وصلنا إلى شيء.
يعد صاحب الشفاء أوجه الإعجاز في القرآن فيحصرها في أربعة:
أولها: حسن تأليفه، والتئام كلمه، وفصاحته وبلاغته الخارقة لما عند العرب.
وثانيها: صورة نظمه العجيب، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب، ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه، ووقفته عند مقاطع آية، وانتهاء فواصل كلماته، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحد مماثلة منه.
وثالثها: ما انطوى عليه من الأخبار بالمغيبات، وما لم يكن ولم يقع، فوجد كما ورد على الوجه الذي أخبر كقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]، وكقوله: {غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 2 - 4] إلى آخر ذلك من الأمور المغيبة التي أخبر القرآن عنها قبل وقوعها، فوقعت كما أخبر.
ورابعها: ما أخبر به من أخبار القرون والأمم البائدة، والشرائع الدائرة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلّا الفذّ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك، فيورده النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه، ويأتي به على نصه، فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه، وأنَّ مثله عليه الصلاة والسلام لم ينله بتعليم، وقد علموا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا اشتغل بمدارسة.
هذا ما ذكره القاضي عياض المتوفَّى سنة 544 هـ في وجوه الإعجاز، ونجد الأمرين الأوَّلين يتعلقان بالناحية البيانية في القرآن، وإن كان أولهما يتعلق بتأليف كلماته وتناسقها، مع فصاحتها وسلامتها وخلوها من الحوش، والثاني بصورة النظم، ومع تخالف حقيقتها نجد منهما ينتهي إلى الناحية البيانية.
أمَّا الأمران الآخران فإنهما يتعلقان بصدق الأخبار التي اشتمل عليها القرآن الكريم، بيد أنَّ الأول يتعلق بالإخبار عن الغيب في المستقبل الذي لا يعلمه إلَّا الله تعالى، والثاني يتعلق بالإخبار عن الماضي.
39 - وذكر القرطبي سنة 684 هـ في تفسيره أن أوجه إعجاز القرآن عشرة:
1 - منها النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وغيرهم؛ لأن نظمه ليس في نظم الشعر في شيء، ولذلك قال رب العزة: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69].
2 - ومنها: الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب.
3 - ومنها: الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال من الأحوال، وتأمل ذلك في سورة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}... إلى آخرها [ق: 1].
وقوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] إلى آخر السورة وقد ضرب على ذلك الأمثلة الكثيرة.
وهذه الأمور الثلاثة كما نقل القرطبي عن ابن الحصّار من النظم والجزالة لازمة في كل سورةٍ بعيدة عن سائر كلام البشر، وبها وقع التحدي والتعجيز.
4 - ومنها: التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي، حتى يقع منها للاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وكل حرف في موضع باعتبار أنَّ القرآن الكريم فيه الكلمات من لهجات العرب، أو لغاتهم.
5 - ومنها: الإخبار عن الأمور التي تقدمت في أول الدنيا إلى وقت نزوله على أمي ما كان يتلو من قبله من كتاب، ولا يخطه بيمينه، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الخالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه وتحدوه من قصة أهل الكهف، وشأن موسى والخضر - عليهما السلام، وحال ذي القرنين، فجاءهم وهو الأميّ الذي لا يقرأ ولا يكتب، وليس له بذلك علم بما عرفوا من الكتاب السالفة صحته، قال القاضي ابن الطيب: ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه لا عن العلم، وإذا كان معروفًا أنَّه لم يكن ملابسًا لأهل الآثار وحملة الأخبار، ولا مترددًا إلى المتعلم منهم، وما كان ممن يقرأ، فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه، عُلِمَ أنه لا يصل إلى علم ذلك إلَّا بتأييد من جهة الوحي.
6 - ومنها: الوفاء بالوعد المدرك بالحسِّ في العيان، في كل ما وعد الله سبحانه، وينقسم: إلى أخباره المطلقة؛ كوعد الله بنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإخراج الذين أخرجوا، والقسم الثاني: وعد مقيد بشرط؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
7 - ومنها: الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطَّلِع عليها إلّا بالوحي، فمن ذلك ما وعد الله به نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على كل الأديان، بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] ففعل ذلك.
8 - ومنها: ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام الأنام في الحلال والحرام وسائر الأحكام.
9 - ومنها: الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي.
10 - ومنها: التناسب في جميع ما تضمَّنته ظاهرًا وباطنًا من غير اختلاف، قال الله تعالى: {ولَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. وبعد أن ذكر القرطبي هذه العشرة قال:
قلت: فهذه عشرة أوجه ذكرها علماؤنا - رحمة الله تعالى عليهم، ووجه حادي عشر قاله النظَّام وبعض القدرية: أنَّ وجه الإعجاز هو المنع من معارضته والصرف عند التحدي بمثله، وأنَّ المنع والصرفة هو المعجزة، دون ذات القرآن، ذلك أن الله تعالى صرف هممهم عن معارضته، مع تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله، وهذا فاسد؛ لأنَّ الإجماع قبل حدوث المخالف أنَّ القرآن هو المعجز، فلو قلنا أن المنع والصرفة هو المعجز لخرج القرآن عن أن يكون معجزًا، وذلك خلاف الإجماع، وإذا كان كذلك عُلِمَ أن نفس القرآن هو المعجز، وإن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة؛ إذ لم يوجد كلام قط على هذا الوجه، فلمَّا لم يكن كذلك مألوفًا معتادًا منهم دلَّ على أن المنع والصرفة لم يكن معجزًا.
40 - ومن هذا نرى أنَّ القرطبي قد أتى بوجوه كثيرة عدَّها من إعجاز القرآن، وقد ذكر عشرة، وإنَّه لكي يكون استقراؤه كاملًا لا نقص فيه أتى بالصرفة، وعدها وجهًا من الوجوه عند بعضهم، وقد ردَّدْناها كما ردَّها هو، وانتهى إلى أنَّ إعجاز القرآن ذاتي وليس من أمر خارج، وأقمنا كما أقام الدليل على ذلك، مما لا يجعل موضعًا لهذا القول، وبيَّنَّا مصدرها الهندي، وأنها فكرة دخيلة على المسلمين، والحقائق تخالفها، والوقائع تجافيها.
ولكن يجب أن يلاحظ فيما أحصاه القرطبي والقاضي عياض أمران:
1 - أولهما: إنَّ الأقسام التي ذكراها يتداخل بعضها في بعض، أو أنهما جعلا ما يتعلق بالنظم جزءًا منه خاصًّا بفصاحة القول، وجزءًا يتعلق بالنظم، وجزءًا يتعلق بالأسلوب، وجزءًا يتعلق بالجزالة، وجزءًا يتعلق بالتصرف في القول، وكل ذلك يتعلق بالمنهج البياني القرآني، وهذه الكلمة تجمع تلك الأقسام كلها، فلا تخرج من عمومها خارجة.
والأمر الثاني: إنَّ بعض هذه الوجوه تحدَّى بها القرآن الكريم، فقد تحداهم الله تعالى أن يأتوا بمثله ولو عشر سورة مفتريات، والوجوه الأخرى لم يتحدَّ بها القرآن الكريم، وإن كانت من عند الله تعالى العليم الحكيم، مثل: إخباره عن أمور مغيبة في المستقبل، ثم وقوعها كما أخبر الله سبحانه وتعالى - في كتابه.
وإخباره عن الأمم السابقة، وإخباره عن شأن عبد الله الصالح مع موسى نبي الله تعالى - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، ومثل قصة أهل الكهف، وذي القرنين، فذكر هذا في القرآن الذي نزل على أميٍّ لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجلس إلى معلم، دليل على أنَّه من عند الله سبحانه وتعالى.
ومن هذه الأحكام الشرعية التي اشتمل عليها القرآن، فإنَّها لا يمكن أن تكون من عند محمد صلى الله عليه وسلم، بل هي من عند الله.
وقد كتبنا في هذه عدة بحوث في إحدى المجلات الإسلامية، بعنوان (شريعة القرآن دليل على أنه من عند الله) جمعتها إحدى الهيئات الإسلامية في رسالة ونشرتها، وترجمتها إلى الفرنسية والإنجليزية، وقد أقمنا الدليل على أن تلك الشريعة المحكمة لا يمكن أن يأتي بها أميّ لا يقرأ ولا يكتب، وقد نشأ في بلد أمي ليس به مدرسة ولا مكتب دراسة، وهي في إحكامها لا يمكن أن تكون إلَّا من عند الله تعالى.
وكتبنا بحثًا وازنَّا فيه بين شريعة القرآن وقانون الرومان في الملكية بالخلافة، وذكرنا أنَّ قانون الرومان قد تكوَّن في نحو ثلاثة عشر قرنًا، ومع ذلك هو في الملكية بالخلافة لا يوزان بشريعة القرآن، إلَّا إذا وازنَّا بين عصا هشة وسيف بتار، فلا يمكن أن يأتي به محمد من عنده، بل هو من عند الله تعالى.
والأوربيون القانونيون يرون في قانون الميراث في القرآن أنَّ العقل البشري لم يصل إلى الآن إلى خير منه، ونحن لهذا نقرر أن ما ذكره القرطبي غير الصرفة يدل على أن القرآن كله جملة وتفصيلًا هو من عند الله سبحانه وتعالى العليم الخبير.
ولكن نرى أنَّ الله تعالى تحدَّى العرب أن يأتوا بمثله ولو مفترى، فكان التحدي للعرب ابتداءً بالمنهج البياني للقرآن، وهو الذي استرعى ألبابهم، ولعله لم تكن بلغت مداركهم العقلية والقانونية أن يعرفوا مدى ما في أحكام القرآن من تنظيم سليم للمجتمع، فيه المصلحة الإنسانية العالية التي تعلو على تفكير البشر، وإن كان فيهم ذوق بياني يذوقون به الألفاظ الفخمة القوية في رنينها، المصورة للمعاني في أحوالها الصوتية، وتَكَوُّن حروفها، ومرامي عباراتها، ويدركون في ذلك المعنى السليم من غير إجهاد، فيدركون ما هو جيد المعنى في ذاته من غير أن يتعرَّفوا فلسفة قانونية أو عقلية أو كونية، وفي القرآن ما يرضهيم ويملأ نفوسهم، ويعجزون عن أن يأتوا بمثله.
وإن القرآن فيه الشريعة الباقية الخالدة، وهو يخاطب الأجيال كلها، والأجناس كلها العرب والعجم، والبيض والسود، والأحمر والأصفر، فليس ما فيه من الإعجاز خاصًّا بالعرب، وإنما إعجازه يعمّ الجنس البشري كله؛ لأنه يخاطب الجميع، ويطالب الناس قاطبة بأحكامه، وفيه البينات المثبتة لكل جنس.
وعلى ذلك نقسم وجوه الإعجاز التي اشتمل عليها القرآن إلى قسمين:
أولهما: ما يتعلق بالمنهاج البياني؛ وهذا النوع من الإعجاز أول من يخاطب به العرب، لما ذكرنا في صدر كلامنا من أنه جاء بلغتهم، ولأنهم كانوا بمقتضى بداوتهم مع استقامة تفكيرهم، ومع وجود نبوات سابقة فيهم، أبقت بعض العلم، وبمقتضى ثقافتهم اللسانية وعنايتهم بلغتهم كانوا أكثرم الناس إدراكًا لمعنى الإعجاز في القرآن من ناحية بيانه ونغمه وجزالته، وكذلك كان الأمر منهم، وكانوا هم المخاطبين أولًا به، وبعجزهم قام البرهان الأول.